Advertising

امبارح كان عمري تلاتين

 
 
  كنت أسأل جدي لماذا توفى الرسول ، محمد صلى الله عليه و سلم ، في عمر ٦٣ عاماً ، و لحق به صديقه أبو بكر عند العمر نفسه ، و مرت سنوات و لحق بالاثنين الفاروق عمر بن الخطاب عند السن ذاتها.. " هل في الأمر حكمة يا سيد ؟" هكذا سألته ، و هكذا كنا ننادي الجد بكسر السين ، كان جدي عالماً بالقرآن و معلماً له ، و كنت في أيامه الأخيرة ، و تحت إصرار منه ، " أسمع له الآيات " أمسك المصحف و أتركه يتلو ، و أتعجب ، في تلك السن الصغيرة ، من حرص عجوز مثله على ضمان حفظه الجيد للقرآن حتى النفس الأخير .
كنت أسأله أسئلة لا أجد عنده لها إجابة أكثر من " حكمة ربنا كده " .. " ألم يخلق الله آدم في الأساس ليكون خليفته على الأرض ؟ " .. كنت أسأله، فيجيب : " بلى "، أعود فأقول له .. " يعني كده كده كان سيغادر الجنة ، و يهبط للأرض ، سواء اقتربا الشجرة أو لا " يرد جدي : " معلوم "، أعاود التساؤل : " لماذا إذن قضى وقتاً في الجنة ، و لماذا نزل إلى الأرض و هو شاعر بالخطيئة ، بينما هو يبدأ مهمته الأصلية التي خلقه الله من أجلها ؟!".

كان الرجل يضجر و يرد بانفعال : " ربنا له حكمة في كل اللي بيحصل .. حكمته كده " .. لكنه كان لا يضن علي بما يعلم و يجتهد , يقول ببساطة : " كان من الضروري أن تكون هناك تجربة مبكرة مع الشيطان , حتى يفهم آدم و ذريته أنه لهم عدو , و يعرفون الجنة , و يدركون حجم النعيم الذي يحاول الشيطان إبعادهم عنه ".

و عندما سألته عن وفاة الرسول و الشيخين من بعده أبوبكر و عمر في سن واحدة , كان يقول , كذلك , إنها حكمة ربنا , ربما كان ذلك متوسط العمر في هذه الأمة , ذكرني بحديث قدسي , كان النبي موسى قد طلب من الله أن يجعل أعمار قومه مثل قوم نوح قرب الألف عام , و قال رب العزة لكليمه إن أمة تأتي من بعدك أعمارها ما بين الستين و السبعين , فجزع موسى و تساءل : " هل سيبنون قبورهم على أعتاب دورهم " ..
ربما كان يعتقد النبي موسى أن ذلك عمر قصير جداً قد لا يسعف الإنسان على إنجاز شئ .

كان جدي قد تجاوز هذا المتوسط بكثير , بينما توفى أقارب لنا دونه بكثير , لكن بعض ممن جاءوا و ذهبوا كومضة برق , تركوا أثراً و ذكرى و إلهاماً , و بعض ممن بلغوا أرذل العمر و حققوا إنجازاً , تحقق معهم في سنوات قليلة من هذا العمر الطويل أو ربما السنوات الأخيرة .. عاش الرسول 63 عاماً , لكن 23 منها فقط شهدت الإنجاز من بدء الدعوة إلى كمال الدين , و قضى المسيح 23 عاماً من الميلاد إلى الرفع , فيما بدأت مسيرة رواد في السياسة و الأدب بعد الستين .  
كان جدي مثل كل المؤمنين يسير بطريقة " كأنك تموت غداً .. و كأنك تعيش أبداً " , لكنه قال لي ذات مرة إذا كان متوسط عمر الإنسان 60 عاماً , فإن النصف الأول يمر بقدر من التروي , ليمنحك فرصة التجربة و الخطأ , فيما ينفرط النصف الثاني لاهثاً حتى تظن أن حياتك كانت حلم ليلة واحدة .

بالأمس دخلت النصف الثاني , و أنا أردد قول المغلوط : " كل يوم أمشي ملايين السنوات الضوئية .. و أتذكر نصيحة جدي : " أصحاب السيرة الحسنة لا يموتون " .. 

اللهم أعطني القدرة حتى لا أموت ! 


ليست هناك تعليقات :

زواج دوت قمر. صور المظاهر بواسطة fpm. يتم التشغيل بواسطة Blogger.